الشيف لمياء كرماس تكتب عن “مهنة الطباخ بين البطالة وحاجة سوق الشغل”

1

الشيف لمياء كرماس، مكونة وعضوة المكتب الجهوي الفدرالية الوطنية لفنون الطبخ:

البطالة موضوع شائك، وغصة خانقة في حلق أي بلد، إذ إهمالها والسكوت عنها يزيد من حدتها وإنتشارها بموازاة مشاكل أخرى ناتجة تشنج الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية للشرائح المعنية، وهذه البطالة تطال كل المجالات الأدبية والعلمية والخدماتية.

فهل في مجال المطعمة -وأخص فن الطبخ- نحن أمام زيادة في أعداد الأشخاص البالغين المؤهلين للعمل والذين تنطبق عليهم شروطه، عن عدد الوظائف المتاحة في سوق الشغل؟ أم نحن بشكل غير مباشر أمام تكوين وتخريج معطّلين جدد بينما الحاجة في سوق الشغل لا تزال قائمة؟

من خلال سنواتي القليلة التي امتهنتها في هذا المجال بين مهنية في القطاع ومكونة، وقفت على ثغرات تجعل إدماج الشباب في سوق الشغل أمرا مستعصيا وتجعل المؤسسات الفندقية والمتخصصة دائما في حاجة ليد عاملة مناسبة لا تجدها خصوصا في المواسم التي تعرف رواجا!!

المؤسف أننا في وقوفنا من خلال تجربتنا المتواضعة نجد أن جزء كبيرا من الخلل كامن في النُّظم التكوينية التي تستوعب الكم لا الكيف ببرامج تكوين تظل جامدة وبعيدة عن مواكبة ما يتطلبه السوق، وبالمقابل اهتمام السوق بيد مؤهلة جاهزة دون رغبة واستعداد في استكمال العملية التكوينية إلا من مؤسسات مصنفة فخمة عددها لا يسمح باستيعاب أفواج الخريجين.

البطالة الطبيعية هي وجود عدد مؤهل من الشباب حامل للشهادات دون عمل مقابل انعدام طلب من جهة سوق العمل، لكننا في مهن المطعمة أمام بطالة غير طبيعية، حيث أن عملية إنتاجها تبدأ منذ ولوج الشاب للتكوين، شاب معرض للبطالة، بطالة مقنعة كانت أو مالية أو بطالة حقيقية.. ولهذا أسباب أتطرق لذكرها.

عرف مجال فن الطبخ ثورة معينة في نوع مطاعم ونقط بيع بسوق العرض ذات طابع لا يمثل التقنية المهنية المطلوبة في فن الطبخ ولا يمثل التراث المغربي، إذ لا يقدم أدنى خدمة لهذا التراث بشقيه المادي واللامادي، ثورة من وصفات وطابع خدمة يستقطب عددا مهما من الشباب (ذكورا و إناثا) دون عقدة عمل ودون فرصة لأي تطور مهني يُكتسَب من تجربة هذا العمل، لأنه لم يسبقه تكوين قبلي يجعل من الشاب الممارس خزّانا وبوصلة صحيحة قوية لتصحيح مسار هذا النوع من الطعام وتطويره و تجويده، ولم لا تمييزه بمنتوجات محلية وصحية تخدم المنطقة والبدن!!

الشاب العامل بهذا النوع من الخدمة المقدمة التي تكتسح مساحة مهمة في سوق الشغل، خريجاً كان أو غير مكوَّنٍ في فن الطبخ، يجد نفسه أمام لائحة جامدة من التحضيرات تقتل فيه حس الإبداع إن كان فنانا، فيهرب بحثا عن ميدان آخر ليبدأ من جديد و نخسر بذلك طاقة مهمة كانت لتكون قيمة مضافة للقطاع.. أو تجعل منه آلة إن كان يحتمل امتهانها فقط في سبيل الأجر اليومي أو الشهري!!

بما أنه ليس من جهة معينة أو خطة لتصحيح وتطوير أو على الأقل استرجاع ذوق الساكنة والشباب، أوليس حريّاً إذن أن تلتفت المؤسسات التكوينية المعنية لتطور سوق الشغل بمستجداته وتكوِّن شبابا في هذا النوع من الطعام ليضمن منتوجا ذو جودة وخدمة لائقة بشواهد تخصصية حقيقية تشجع على تشغليه بعقدة عمل محترمة؟!

للإعلام و التليفزيون والإنترنت دور مهم في توجيه أذواق الناس وميولاتهم واهتماماتهم، وكل جديد هو محط اهتمام دون شك، و نتاجا لذلك نشأت الكثير من مراكز التكوين الخاصة بفنون الطبخ، وهذا له حسنات كثيرة كتشغيل بعض من اليد العاملة وخلق مقاولات صغيرة خاصة مدرة للدخل، ومتنفس مهم للسيدات وربات البيوت إذ ينعكس ذلك بشكل إيجابي على حياتهن الخاصة، وتكوين الأرامل و تشجيعهن على إنشاء ورشات إنتاج خاصة بهن تمنعهن مد اليد والسؤال.

تهتم أغلب هذه المراكز الصغيرة التي بالكاد تنتعش وتنعش بتلقين الطبخ المغربي غالبا، فيكون اجتهاد المشرفين والمشرفات في إعداد الوصفات التعليمية ضربا صارخا لأصالة الطبخ المغربي وأخص بالذكر “الحلوى المغربية” فتنسلخ هذه الأخيرة من أصلها ولونها وشكلها وذوقها إلا من إسمها لتنوب عنها أخرى لا تشبهها في شيء.. وعند حاجة سوق الشغل لمتقن أو متقنة لهذا النوع المميز ما من كفاءة وافرة تغطي الخصاص وأكثر منه كفاءة تحمي هذا التراث من الضياع. فنحن حقا أمام فقدان هوية ذوقية تستوجب الإنتباه و الإهتمام.. دعوتي هنا لكل غيور إلى تكثيف الجهود لتوثيق هذا الموروث وإعطائه الإستحقاق اللازم وسط فوضى الطعام الأجنبي الذي يتطبع في ذاكرة أطفالنا! الأكل عنصر مهم في تشكيل الهوية والتاريخ و الذكرى، فأي ذكرى لأطفال يرتادون محلات “الطاكوس و البيتزا” وفي البيوت غالبا ما يأكلون معجنات؟؟! فهل من لجنة مواكبة لهذه المراكز تُدارِس معها برامج التلقين و تلائمها مع التقنية اللازمة والتنمية الفندقية المرجوة و الجودة الإنتاجية المحتَّمة؟! إن كانت، فحتما سيجعل ذلك من هذه المراكز نواة إنتاج يد عاملة مؤهلة وطنيا ودوليا لتسويق الطبخ المغربي والحلوى المغربية.

تعتبر معاهد التكوين المهني المتخصصة في الفندقة والمراكز التابعة له ملجأً و منفذاً لكتلة ثقيلة من الشباب منهم المنقطع عن الدراسة و منهم المتمدرس بالجامعات.. يعتمد تكوين هذا الكم من الشباب على برنامج ذو أسس شاملة جامعة لعلوم فن الطبخ، إلا أن هذه الأسس لا يُشْتقّ منها أي تخصص يأخذ بالاعتبار حاجة سوق العمل و لا يواكب المتدرب أثناء فترة تدريبه و لا يوازي هذا البرنامج أي تكوين شخصي يجهز هذا الشاب و يوضح له معالم المهنة و المهارات الشخصية اللازمة لإتقانها، و لا تسخير أي مراجع حديثة ترفع من همة المتدرب فتكون منبعا يستقي منه رموز الولوج إلى سوق شغل عالمية!

افواج هائلة تتخرج كل سنة تحمل أغلبها فكرة أن الشهادة هي المنقذ من البطالة، و ترسخ هذه المؤسسات هذه الفكرة بالنهج الذي تتعامل به مع هذا الشاب.

إن أغلب الفئة المتوجهة للتكوين في هذا التخصص إما هاربة من أنياب التهميش و الفقر و الفراغ طمعا في وثيقة تعلق كل آمالها عليها في وطنها أو في وطن آخر بعد الهجرة، و إما طموحة، و هي قلة، شغوفة بهذا الفن، و هي التي تحقق التميز على الرغم من غياب الدعم و المواكبة و الاحتضان. و ما تبقى إنما شباب هائم يرتاد المعهد كروتين جديد يقنع به نفسه و أهله أنه يحاول.. يوهم نفسه بمحاولات صورية الغياب فيها أكثر من الحضور، الجسد في زي مهني و العقل و الوجدان هاربين ينتظران رشيداً ينيرهما و يردهما!

فتكون بذلك هذه الأفواج الجديدة المتخرجة كل سنة أفواجَ معطلين جدد كل سنة!! و تظل القلة المتميزة الطموحة غير كافية أمام ما تطلبه المؤسسات الفندقية و الخدماتية في مهن المطعمة خصوصا في مواسم الذروة.

و في الجانب الآخر تساهم هذه المؤسسات بدورها في إنتاج البطالة بسبب انتقائها لليد العاملة الجاهزة دون أدنى انخراط في تشجيع العملية التكوينية التكميلية و لا تقوية مهارات الخريجين الشخصية و التقنية، و نجدها بذلك تخلق بطالة أخرى جديدة و هي البطالة الإحتكاكية، حيث يشغل الطباخ أكثر من شغل و ينتقل من قسم لآخر و يعمل بالقسمين معا مما يخل بمقدرته على الإنتاج و التأقلم و أيضا تضييق الفرص على طباخ آخر ليشغل القسم الشاغر!

ليس أكثر ما يجعل قطاع المطعمة هشا، على حيويته و أهميته في الاقتصاد المحلي و الجهوي و الوطني، إلا هذا التفكك الرهيب بين مكوناته و انعدام روابط بنيوية و تواصلية تجمع بينها مما يجعل مشاكله في اطراد مستمر و على رأسها البطالة.. لا يمكن للتنمية في مهنة الطباخ و التنمية السياحية بصفة عامة أن تتحقق إلا بتثمين الرأسمال البشري و تظافر جهود كل المعنيين من مؤسسات تكوينية عمومية و خاصة و وزارة السياحة بمكاتبها و مجالسها الإقليمية و المقاولات الإستثمارية الكبرى و الصغرى و الفدراليات و الجمعيات المتخصصة و الممولين و كل حرفيي القطاع و تكوين لجن ذات مهام محددة تخدم هذه التنمية.

في انتظار ان يتم ذلك، و أن تستدرك المؤسسات التكوينية سياستها باستيعاب كم مهم من الشباب و تخريج أغلبه أفواجا معطلة بشواهد، أتحمَّلُ و أُحمِّلُ مسؤولية المساهمة في بعض التغيير لهذا الشباب الطامح لهذه المهنة، اختيارك لها يلزمك بالإخلاص في الدراسة و البحث و الالتزام بأخلاقياتها. فإني إن أقول أن الثغرة بين الخريج العاطل و حاجة المؤسسة للعامل المفقود إنما هي ثغرة الجودة، فإن غابت بعض الجودة في المؤسسة حيث تكوّنْتَ فلا يجب أن تغيب عنك كقيمة تسعى إليها..

جودة إخلاصك في السعي لتحقيق هدف التميز في مهنتك، جودة بحثك و عنايتك بمعلوماتك، جودة اطلاعك على المواد الخامة و تقنيات تحويلها، جودة ذوقك و سلامته، جودة تقديرك لتراث بلدك و صيانتك له، جودة أمانتك بخدمة قطاع فن الطبخ و خدمة وطنك، جودة أخلاقك اللازمة مع مهنتك.. فتكون بذلك حرفيا يقتدى به و منارا ينتشل غيره من الشباب من ظلام الخمول و التمسك بالشهادة، بل يكون لهم أملا لتكون الشهادة محطة انطلاق لا وصول!

تعليق 1
  1. العابدي يقول

    مل من تحمل مشقة العمل والصبر والمثابرة واحترام كل ما تستوجب هاته المهنة من اجتهاد أو نكران الدات فسيصل صاحبها إلى المستوى المنشود

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.