آيت أحمد: بعد كورونا علينا القضاء على جراثيم كثيرة

مريم آيت أحمد؛ أستاذة التعليم العالي:

هذه الأيام الحجرية الصحية، ومن شرفتي أطل من حين لآخر كما هو حال غيري، على الشوارع الخالية، واليوم امتد بصري نحو شرفة، يجلس بها شيخ كبير يطل من أريكته القصبية على أحوال العباد والبلاد، وربما كان يرقبني من بعيد كما كنت أرقبه، أو ربما رمَق فيً شبه لابنته التي لم تزره لمدة الحجر أو ما قبلها، كيف لم انتبه إلى هذا العجوز من مدة؟ سؤال انتابني للحظة، ليحوله لمجموعة أسئلة مرت مرور برق خاطف بمخيلتي.

ترى هل كنا نحس بقيمة حرية تحركاتنا بالشوارع، كما نحس اليوم بفقدها؟ فَقْد يحسه كل محروم من متعة التجوال فيها، يحسه أصحاب المرض المزمن المحكوم عليهم بعزلة طويلة، ينتظرون أمل متعة إشراكهم لحظات تغير رتابة عزلتهم عن الأحباب، ترى هل كنا نحس بمعاناتهم لنخصص زيارات دورية تخفف من ضيق أحوالهم؟ متعة حظر التجوال التي نعيشها اليوم مؤقتا يعيشها معنا عشرات العجزة في بيوت عوائلنا، ولأعوام عديدة، ترى هل يعيد لنا الحجر الصحي فرصة التصالح مع الذات وتعديل موازين القيم الناقصة في سلوكياتنا؟ هل نخفف وتيرة ضغط متاعب الحياة لنجدد صلة الرحم المنقطعة مع شيوخ عوائلنا ونخصص لهم وقتا اكثر؟

ترى كم من أب وحيد وأم وعمة وخال وخالة، وجد وجدة في انتظار فرحة دخولنا عليهم ولو للحظات قد تكسبهم مناعة ذاتية، وترفع معنوياتهم لأسابيع.

فكم منا من يرجع قبل بيته إلى مقهاه لساعات، وإلى صالات رياضته لساعات، وإلى صالونات تجميل لساعات، وإلى مسلسلات مدبلجة، ومحادثات واتساب، وجدران فيسبوك لساعات ، لكن لايجد ربع ساعة لأهله من المعزولين بحجز معنوي  عن ضجيج حياة الشارع!

هو إحساس يشبه الموت البطيئ، ولا يسارع عقارب الساعة، ويحملني إلى معاناة سجناء محكومين بسنوات وراء القضبان. وماهو إلا أسبوعين من الحجر الصحي، وبدأنا نضجر ونحن نعلم أن حجزنا سينتهي بعد أيام! لكن ترى هل فكرنا في الحصار المضروب والمفروض على أهل مناطق الحروب لسنوات طويلة، بفلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا؛ حصارا جبريا فرضته أزمات حروب منعت الطفل من الخروج للعب، والأم من الخروج للحدائق، والشيوخ من الخروج للمساجد وزيارة الأهل، ومنعت مجتمعات لأعوام عديدة من نكهة مرح وفسح بين المتاجر والمحلات، كما منعتهم من رحلة اصطياف عائلي واستجمام، إنه ليس ممثل حجرنا، بل حجر قهر حرب مدمر ابتدأ من البيت ليخرجهم منه بقوة القهر نحو المجهول والتشرد والتهجير القسري، هي نِعم كنا نعيشها ونشكو من ضغطها على مافيها من متعة حياة، نعم، هي نعم لايعرفها المريض ولا الشيخ الكبير، ولا المصاب بدمار الحروب، وكنا نتذوق لذة وطيب حلاوتها، مع شكاوى تدمر وسخط دائم.

نحن حقا نحن مدعوون إلى إعادة ترتيب مفاهيم قِيمنا، لتلامس أحاسيس المقهورين، ولترفع الملل عن المعزولين في عوالم حياة شوارعنا وفي طبيعتنا، وأسفارنا، ودينامية أنشطتنا. ألم يحن الوقت للمصالحة مع تضخم ذواتنا وجعل هذا الحجر نظاما صحيا، يقلص من تضخم غدة هرمون الأنا ويعيد توازن هرمونات محبتنا، ليفرز مواد تنشيط عملها، بالبسمة في وجوه المعزولين بزرع أمل الحياة بخطوات لهفة المحب، ولزيارة كبار ومرضى عوائلنا والسعي بالخير والسؤال عن أحوال احبابنا وأصدقائنا وجيراننا، وحتى أساتذتنا ومربونا ومعلمينا.

إن كوفيد19 المرتبط بفيروس كورونا، قادرة اليوم إن نجونا من الإصابة من أعراضه، أن يخلصنا من جراثيم فاسدة تدمر روحانية علاقاتنا، وتذيب نكهة الإحساس بإنسانيتنا.. جراثيم تحصد كل يوم ومن دون وعي منا، آلاف المقابر الجماعية لموتى على قيد حياة، ففيروس مادة حب سائل افتراضي، خطير لأنه يعدي علاقاتنا، ويجرد مناعتنا، من خلايا قوة دفاعنا التي رأسمالها الحب الصلب الحقيقي، وليس فايروس السائل الافتراضي.

التعليقات مغلقة.