أغربي يكتب: “المتطفلون على التاريخ والسعي لطمس الهوية والذاكرة الجماعية”
بقلم: ياسين أغربي، باحث في التاريخ المعاصر
مقدمة
تُعَدّ عملية التأريخ عملية دقيقة ترتكز على التحري، التوثيق، والتحليل الموضوعي للأحداث. غير أن هذه العملية كثيرًا ما تتعرض للتشويه بفعل ما يمكن وصفه بـ”تطفل البعض” على كتابة التاريخ، سواء بدافع أيديولوجي، سياسي، أو حتى شخصي. وهذا التطفل لا يقتصر على إساءة استخدام المصادر أو تحريف الوقائع، بل يمتد إلى إنتاج سرديات زائفة تتعارض مع الحقائق التاريخية، مما يهدد وعي الأفراد وهويتهم الجماعية .
“فالتطفل” في هذا السياق يشير إلى تدخل غير المختصين أو أصحاب المصالح في كتابة الرواية التاريخية، دون الالتزام بالمنهجية العلمية أو دون توفر مؤهلات علمية تؤهلهم لهذه المهمة.
وقد يشمل ذلك بعض الأدبيين غير المحايدين، أو من يسمون أنفسهم صحفيين، أو حتى الشخصيات العامة التي توظف التاريخ لخدمة أهدافها الخاصة أو لتمرير ايديولوجيتها.
ومن أسباب التطفل على التاريخ يمكن ارجاعها الى عدة اسباب يمكن تلخيصها في أربع عوامل:
1. الإيديولوجيات السياسية: تستخدم بعض الأنظمة التاريخ كأداة لبناء شرعية زائفة، فتُعاد كتابة الوقائع بما يخدم روايتها الرسمية وهو الامر الشائع.
2. الجهل أو ضعف التأهيل الأكاديمي: يتدخل بعض الكُتاب في مجالات التاريخ دون إلمام بمنهجيات البحث التاريخي وهذا نجده كثيرا بشمال المغرب.
3. الربح المادي والإثارة الإعلامية: يلجأ البعض إلى تحريف التاريخ لإنتاج روايات مثيرة تُسوَّق بسهولة في وسائل الإعلام أو النشر.
4. الانتقائية والتوظيف الشخصي: حيث يُختار من التاريخ ما يخدم مصالح ضيقة أو أجندات فردية.
ومن آثار التطفل على الوعي التاريخي :
1. تشويه الحقائق وطمس الذاكرة الجماعية: مما يؤدي إلى انقسام اجتماعي وفكري داخل المجتمعات.
2. إضعاف الهوية الوطنية: التاريخ المشوّه يخلق صورة مشوشة للماضي، وهو ما يؤثر سلبًا على شعور الأفراد بالانتماء. 3. خلق أجيال غير واعية بالتاريخ الحقيقي: خاصة حين تُدرّس روايات زائفة في المؤسسات التعليمية أو تُبث عبر الإعلام. 4. التقليل من شأن البحث العلمي الرصين: حين يُساوى بين المؤرخ المتخصص والدخيل غير المؤهل. ومن أجل مواجهة التطفل في كتابة التاريخ وجب:
- تعزيز دور المؤسسات الأكاديمية والبحثية في كتابة وتوثيق التاريخ وفق منهجية علمية صارمة.
- دعم المؤرخين المتخصصين وتوفير منصات لهم لتقديم سرديات موثوقة.
- نشر ثقافة التحقق من المعلومات التاريخية عبر التربية والتعليم والإعلام.
- سن قوانين لحماية الأرشيف التاريخي ومنع التلاعب به.
- تشجيع الترجمة والانفتاح على الروايات المتعددة مع الالتزام بالمعايير العلمية في النقد والتحليل.
خاتمة
إن التطفل على كتابة التاريخ ليس مجرد خطأ علمي، بل هو خطر ثقافي وأخلاقي يهدد الذاكرة الجماعية للأمم. ومواجهة هذا الخطر تتطلب وعيًا مجتمعيًا، دعمًا للمؤرخين، وإرادة مؤسسية تضمن أن يظل التاريخ مرآةً صادقةً للماضي، لا أداةً لتزويره.
التعليقات مغلقة.