في الرياضيات لا ننام لنحلم بل ننام لنفكر

0

عاشقُ الرياضيات مثل السكير، لا يستشعر حلاوة الحياة إلا وهو يتجرع المسائل والبراهين، في خمارة بئيسة من أوراق الزبدة، العاشق يجد متعته وهو يجالس الغرباء، وفجأة يبدأ بإلقاء برهنته على مسامعهم، وعند انتهائه يصفق له الجميع ويقول «يا سلام»، ولا أحد فهم ما قال الرجل.. هكذا هي الرياضيات إحساس يستطيع أن يصل إلى الآخرين دون إدراكه.

ليس كل من درس الرياضيات وكان الأولَ في المادة مخولاً أن يستمتع بها، الرياضيات فن، ليس بالضرورة المشاركة في حل المسألة للوصول للنشوة والإبحار في لذاتها، يمكنك الاستمتاع بمجرد قراءة حلّ مسألة أو مشاهدة فنان يخط ملامح البرهنة، حيث إن طريقة الانتقال من سطر إلى سطر ومن نتيجة لنتيجة وحتى الأقواس بين عملية وعملية تشعرك بالإبداع وينتابك الإحساس بالسعادة.. معروف عن الفنانين الرياضياتيين خطهم السيئ، لكن الفنان يستطيع فهم طلاسم الكتابة والاستمتاع بفكّ رموزها والوصول إلى جوهرها.

الرياضيات ليست هي النتيجة كما علمنا الأساتذة -سامحهم الله- الرياضيات هي تلك البرهنة الموزونة وقافيتها دائماً هي المنطق، المنطق حتى في لا شيء، أتذكر أحد الأساتذة الذين اختاروا الرياضيات طوعاً وليس فرضاً، حين كان يبرهن عن علاقة في الهندسة الفضائية، كانت ملامحه وهو ينتقل من نتيجة إلى نتيجة تبدو وكأنه يمارس الحب مع معشوقته، نظراته لها فيها إثارة وإصرار كأنه يستجديها ألا تخذله مع غيره من عشاقها، حين ينتهي من البرهنة كانت تقاسيمه تدلّ على إفرازه ماء الحياة، يطلق يديه في اتجاه قوة وزن الأرض كما هو معروف في الفيزياء، يلتطم الطباشير مع الأرض ليحدث تنهيدة النهاية.

الرياضيات لم تكن يوماً عِلم أرقام، بل علم مجالات؛ تخيَّلْ أنك قبل الدخول للمعركة مع خصم عنيد مثل المسألة الرياضية، تحدد المجال وحدود المعركة، سيقول البعض إنه بتحديد الحدود لا مجال للمعركة، سأقول إن المتعة تتضاعف حين تلعب في مجال صغير بتقنيات اللانهاية. تخيل أنّ لك إمكانيات لا حصر لها ولك مجال صغير لاستعمال كل تلك الإمكانيات، هنا فقط تظهر براعة اللاعب، العاشق للعبة سيحاول ويفشل ولن يتردد في تكرار المحاولة، بتكرارها يثبت حبه أكثر ويقدم صبره وجهده قرباناً للمسألة، حتى ترضى عنه وتقبل الفتوحات العظيمة.. في الرياضيات لا يمكن أن تقبل بالقليل، دائماً تكون النهاية عظيمة كعظمة القيصر في بلاد الإغريق.

في الرياضيات لا ننام لنحلم بل ننام لنفكر، هذه خاصية يشترك فيها عشاق هذا الفن الذي يجهله الكثيرون، وأغلب المبرهنات خُطَّت وأصحابها غاصون في نوم عميق، حتى يستيقظون كأنهم أحسوا زلزالاً حرك كل شيء إلا فطنتهم، فيحملون أقرب ورقة وقلم الرصاص وتبدأ الاحتفالات، عند الانتهاء يعودون للنوم كأنهم كانوا في حرب دامت لأشهر.

متعة الرياضيات هي أن تستعمل أوراق زبدة، وتملأ كل جنباتها، نحن لسنا كشعراء، نتخلص من كل ورقة تؤرخ لفشل صاحبها في نظم السطور الأولى للقصيدة، في الرياضيات نتشبث بكل ورقة كانت شاهدة على الولادة حتى وإن كانت ولادة غير شرعية. الانكسارات والفشل في الرياضيات متعة أيضاً، فالعملية تبدأ في كشف أوراقها حين يعلم العاشق أنه أضلّ الطريق، وببديهته يهتدي لطريق أجمل، فيه نفحات رياضياتية وتشابك منطقي، ورموز تعلن الولاء لصاحبها، العاشق للرياضيات يولد في اليوم آلاف المرات، وفي كل ولادة تسمع صرخة الحياة، فينطلق في بحور اللانهاية إلى أن يغرق فيبعث من جديد.

«إبسيلون» قيمة يعرفها فقط من مر من دروب صاحبة الجلالة، فلا يمكن التعبير عن شيء ممتعض منه وغير راضٍ عن قيمته، دون الاستعانة بالصديقة الوفية لتخرج كل طاقاتك السلبية، الشاعر يتباهى بالصور الشعرية التي تنقل خياله من الخاص للعام فيشاركه كل من قرأ القصيدة خياله وصوره، أما الفنان الرياضياتي فيتباهى بإدراك عقله لقيمة مبهمة غير محددة لا يراها ولا يلمسها هي «إبسيلون»، وهنا الفرق.. الفنان في الرياضيات يهتدي لإدراك الله وتوحيده والشاعر قد يظل طريقه أثناء تجميع الصور الشعرية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.