شذرات عن المجاهد طلحة الدريج قائد معارك تحرير سبتة
الدكتوره حسناء داوود
رجوعا إلى الكتب التي تؤرخ للحركات الجهادية في شمال المغرب بوجه خاص، فإننا نجد اسما من ألمع الأسماء التي سَجلت مواقف مشرفةً في هذا المجال، ذلك هو اسم المجاهد المكافح، والولي الصالح، والقطبِ الواضح، الشيخ سيدي أبي يعلى طلحةَ بنِ عبد الله الدريج الأنصاري، الذي نخلد اليوم ذكراه، ونحتفل بموسمه، حيث نتواجد في مقام ضريحه الأطهر، ونغتنم هذه الفرصة للترحم عليه، بوصفه أحدَ العلماء العاملين، وأحد الرجال المتقين، وأحدَ الأبطال المجدين، الذين يستحقون كل الإكبار والتبجيل.
فماذا نعرف عن هذا الشيخ الجليل ؟ وماذا سجل لنا التاريخ عنه، حتى أصبح من الأعلام المشهودِ لهم بالعلم والولاية والجهاد ؟ الحقيقة أن المعلومات المفصَّلةَ عن كل ذلك، إنما هي قليلة ومقتضبة، وإنما يمكن استخلاص بعضها، بل أبرزِها وأكثرِها دلالة على الموضوع، مما قد نقف عليه عند المهتمين بتدوين سِيَر بعض الأسر المغربية، من أمثال الشاعر المبدع، أبي الربيع سليمانَ بنِ محمد بنِ عبد الله الحوات الحسني العلمي الشفشاوني، وهو من رجال القرن 12 و13 الهجري = 18 و19 الميلادي (هو أبو الربيع سليمان بن محمد بن عبد الله الحوات الحسني العلمي الشفشاوني 1159 –1232 هـ= 1747-1816).
ففي تأليف لسيدي سليمان الحوات المذكور، حول بني الدريج الأنصاريين بالخصوص، وهو تأليف مخطوط توجد نسخة منه بخزانتنا الداودية بتطوان، نقف على إشارات قوية، تثبت أن الشيخ الجليل سيدي طلحة بنَ عبد الله الدريج الأنصاري، كان من العلماء الكبار، ومن الشيوخ ذوي الاعتبار، ومن المجاهدين الأبرار؛ وهذا التأليف في أولاد الدريج، هو الذي اعتمده والدي الأستاذ محمد داود رحمه الله عند كلامه في المجلد الأول من كتابه “تاريخ تطوان”، على الشيخ سيدي طلحة، بوصفه أحد الرجال المرموقين بهذه المنطقة في القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، بل هو العـَلـَم الوحيد الذي استطاع أن يثبت اسمه وترجمته من بين الأعلام المعروفين بها في ذلك القرن بالذات.
وسأحاول في هذه العجالة، أن أقف عند هذه الإشارات الواردة عند سيدي سليمان الحوات في تأليفه المذكور، وخاصة منها ما يتعلق بالمواقف أو المعاني الدالةِ على عناية سيدي طلحة الدريج بمسألة الجهاد والرباط على الثغور:
يقول الحوات: إنه – أي سيدي طلحة الدريج – “كان جبلا راسخا في العلوم والمعارف، مقطوعا بولايته، مشهورا بالزهد والورع والسلوك في طريق السلف، دائمَ الصيام والقيام، كثيرَ التهجد والناس نيام، ملازمَ الرباط للجهاد في الثغور، مقصودا للزيارة في مهمات الأمور، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، ناشرا للشريعة والحقيقة بكل محضر، تخاف صولته في الحق ملوك العُدوتين، وترجع إلى رأيه فيما يعرو بين الفئتين، وتقدمه أمامها لقتال الكفار، تيمنا بطلعته في طلب الانتصار، فيحمدون حركته، ويجدون بركته …”. ونحن إذا ما تمعنا في هذا الكلام، نجده كلاما يحمل أكثر من معنى، خاصة وأنه يتضمن الإشارة إلى كون سيدي طلحة رحمه الله، كان ذا مكانة واعتبار خاص لدى ملوك العدوتين كما يقول المؤلف، بدليل أنهم كانوا يقدمونه أمامهم لقتال الكفار، فيحمدون حركته، ويجدون بركته كما يقول.
وبعد التطرق إلى موضوع استيطان بني الدريج أولا بمدينة غرناطة الأندلسية، ثم انتقالِ بعضهم إلى مدينة سبتة، وهي المدينة التي نشأ بها سيدي طلحة، وبها ظهر أمره وانتشر سره، تعرض الحوات إلى موضوع انتقال سيدي طلحة المذكور إلى بادية سبتة القريبةِ منها، وبالضبط إلى النواحي التي ستصبح فيما بعد ضاحية من ضواحي مدينة تطوان، بعد بناء الأندلسيين لها في نهاية القرن التاسع الهجري.
ومعلوم في تاريخ تطوان، بل وحتى قبل بناء هذه المدينة، أن سكان هذه الناحية – بوصفها مركزَ رباط وجهاد ومواجهة للغزو الأجنبي والأطماع الخارجية – كانوا دائما يرغبون في استقطاب واستقبال الشخصيات الجليلة، التي تحظى بكرم العلم، وبنور الورع، وبفضل الهداية، وذلك للاهتداء بهديها، والاستجارة بحماها، والسير على خطاها، والاقتداء بها في مسألة الجهاد والذود عن الحمى، ولا أدل على ذلك مما سبق في تاريخ هذه المدينة، من احتضان للشيخ سيدي عبد القادر التبّين، والشيخ سيدي أبي عبد الله الفخار في هذه الأنحاء أيضا، وذلك في غضون القرن السادس الهجري = الثاني عشر للميلاد.
من هنا كان قدوم سيدي طلحة الدريج إلى هذه النواحي أمرا مرغوبا فيه، حيث إنه بعدما ظهر أمره، وانتشر سره، واعتقده الناس بكل فاضلة وفضيلة، وانحشروا إليه من كل ناحية وقبيلة – كما يقول الحوات –، طلبه أهلها من العزفيين حكامِ سبتة آنذاك، فأجاب طلبهم، رغبة منه في إصلاح حالهم بالعلم والدين، وإعلاء كلمة الله بالاستعداد إلى قوة الرباط في ثغور الجهاد، فنزل فيهم عند ما كان يعرف بخندق الفرجة، وهو مكان قريب من المركز الذي بنيت فيه تطوان فيما بعد، ثم أقام بينهم، ليهتدوا بهداه ويستجيروا بحماه.
ثم إن سيدي سليمان الحوات قد أتى عند الكلام على سيدي طلحة الدريج، بعبارات قويةٍ دالةٍ على أنه لم يكن من الموجهين للقوم فقط، مكتفيا بحث الناس على الجهاد، دون مشاركة منه أو مبادرة، بل إنه كان من المساهمين فعلا في العمليات الجهادية، حيث قال: إنه كان ” له فرس يركبه للجهاد، ويقتحم به أعداء الله في كل واد”، وللتحقق من أن دور سيدي طلحة كان إلى جانب ذلك دورا قياديا في هذا المجال، نجد صاحب هذا المخطوط يؤكد أن أهل هذه المنطقة إنما كانوا يتخذونه قدوة وقائدا مطاعا، يتبعونه في خطاه، ويسيرون على نهجه، حيث يقول: وقد “تخلق أهل المنزل بأخلاقه، من النجدة والبأس ورباط الخيل لإرهاب عدو الله وعدوهم، فكانوا يركبون معه في خمسين فرسا، كل واحد منهم في الحرب أسد هصور”.
هذا في الحقيقة هو الدور الذي كان منوطا بالعلماء والشيوخ من أولياء الله العارفين بقيمة إعلاء كلمة الله، وحفظ الكرامة الدينية والوطنية عبر التاريخ المغربي، وهذه هي المهام التي كان هؤلاء الأعلام من رجال الله الصالحين، وأرباب الزوايا المصلحين، يولونها أكبر اعتبار في حياتهم، عملا منهم على إرساء الإيمان في قلوب القوم أولا، ثم الحفاظ على أرض الإسلام من الغزو الأجنبي ثانيا.
وهذا هو الشيخ المجاهد أبو يعلى طلحة بن عبد الله الدريج، وهذا ما سجله عنه التاريخ من مواقف مشرفة، ليبقى علما يستحق الذكر على مر الزمان، فرحم الله هذا البطل المجاهد، وبارك في ذريته من آل الدريج الأندلسيي الأصل، والذين تواصلوا وتناسلوا في كل من تطوان وفاس بالمغرب، كما ورد الحديث عنهم عند الأستاذ محمد داود في كتابه “عائلات تطوان”، هذا الكتاب الذي نعمل على إخراجه قريبا بعون الله.